التباين في اتجاهات الجريمة بين الأحياء

ترجمة: محمد كامل

تدقيق: شروق السنان

التصنيف: علم البيانات والعلوم الجنائية

يعتبر علم البيانات من العلوم المتداخلة مع المجالات الأخرى حيث ساهم هذا التداخل إلى تحقيق نتائج مهمة في كثير من المجالات كالطبية والعلمية والإدارية وغيرها. يتميز هذا العلم باستخدام الأساليب العلمية والخوارزميات الرياضية لاستخراج الأنماط المميزة من البيانات والتي قد تساعد في تفسير الكثير من الظواهر والمشكلات من خلال الاستناد على النظريات العلمية المستمدة من مجال التطبيق. وعلى الرغم من النتائج الواعدة التي حققها هذا العلم في الكثير من المجالات، إلا أن تطبيقاته في بعض المجالات النظرية كالعلوم الاجتماعية والجنائية تكاد تكون محدودة. ولتسليط الضوء على تطبيقات هذا المجال في العلوم النظرية نتطرق في هذا الملخص إلى النتائج والأنماط التي يمكن الحصول عليها عند تحليل بيانات الجريمة خلال فترة زمنية معينة.

يهدف هذا البحث إلى استكشاف التباين المحلي في انخفاض مستوى الجريمة على مستوى الأحياء من خلال دراسة طولية لبيانات الجريمة في مدينة غلاسكو، اسكتلندا، خلال أربعة عشر عاما ً في الفترة من 1998/1999 إلى 2012/2013. حيث شهدت المدينة خلال هذه الفترة انخفاضًا في معدل الجرائم بنسبة 39.7 ٪. يحاول هذا البحث استكشاف الأنماط المميزة لاتجاهات الجريمة (ويقصد بأنماط الجريمة هنا طريقة تغير معدلات الجريمة في منطقة ما خلال فترة زمنية معينة) كما يقدم تحليلا ً لخصائص الأحياء التي قد يكون لها تأثير على مستوى الجريمة كالفقر والبطالة ونسبة المراهقين وغيرها مما يقدم نتائج مهمة سواء ً للأبحاث المستقبلية التي تسعى لدراسة العوامل المؤثر في انخفاض الجريمة أو تطوير الاستراتيجيات الأمنية التي تهدف إلى الحد من الجريمة.

يركز هذا البحث على التساؤلات التالية: أولا ً، هل شهدت جميع الأحياء انخفاضا ً متقاربا ً في مستوى الجريمة؟ أم أن هناك تباينا ً بين الأحياء في اتجاهات الجريمة. ثانيا ً، ماهي خصائص الأحياء التي يرتفع فيها مستوى الجريمة؟ وهل هناك علاقة بين التغير في خصائص الأحياء ومستويات الجريمة خلال فترة الدراسة؟

 لاكتشاف الأحياء التي تتشابه في اتجاهات الجريمة تم استخدام (Latent Class Growth Analysis LCGA)

ولقياس العلاقة بين التغير في خصائص الأحياء واتجاهات الجريمة تم حساب التغير النسبي بين السنة الأولى والسنة الأخيرة لكل متغير. ومن ثم مقارنة متوسط التغير ومجال الثقة لكل فئة ومقارنة هذا التغير مع جميع الفئات لتحديد الاختلافات المهمة إحصائياً.

أظهرت نتائج التجميع ست عشرة مجموعة تمثل مسارات الجريمة الرئيسية خلال فترة الدراسة حيث تحتوي كل مجموعة على الأحياء المتشابهة من ناحية اتجاهات الجريمة (انظر الشكل أدناه). رُتبت المجموعات من ١ إلى ١٦ حسب التغير النسبي في مستوى الجريمة حيث تضم المجموعة ١ الأحياء الأعلى في معدلات الجريمة بينما تضم المجموعة ١٦ الأحياء الأكثر انخفاضاً في معدل الجريمة. ولدراسة المجموعات بشكل أدق، تم تصنيف المجموعات إلى أربع فئات رئيسية على النحو التالي: الفئة العالية، الفئة المنخفضة، الفئة المتدنية، الفئة المتنوعة. تحتوي الفئة العالية على الأحياء التي شهدت معدل جريمة أعلى بخمسة أضعاف من متوسط معدل الجريمة في منطقة الدراسة. كما تحتوي الفئة المنخفضة على الأحياء التي شهدت معدل جريمة أقل من متوسط معدل الجريمة في منطقة الدراسة بنسبة ٣٠٪ على الأقل. أما الفئة المتدنية فتضم الأحياء التي شهدت انخفاضا ً حادا ً في مستوى الجريمة بنسبة ٥٥٪ مقارنة بمعدل انخفاض الجريمة على مستوى المدينة (٣٩.٧٪). أخيرا ً، تحتوي الفئة المتنوعة على الأحياء التي شهدت تغير نسبي متنوع في مستوى الجريمة.

خلال فترة الدراسة، انخفض معدل الجريمة في جلاسكو بنسبة ٣٩.٧٪، في حين تراوحت نسبة الانخفاض عبر فئات الأحياء الأربعة من -٢٥.٩٪ إلى -٦١.٣٪ مما يشير إلى تباينٍ كبيرٍ بين هذه الفئات. يتبادر إلى الذهن التساؤل التالي: ما هي الأحياء التي كان لها الأثر الأكبر في خفض مستوى الجريمة؟ هذا ما سنعرفه من خلال النتائج التالية.

يمكن تمييز الاختلافات بين فئات الأحياء من خلال مساهمتها في انخفاض إجمالي مستوى الجريمة على مستوى المدينة. فبالنظر إلى الفئة العالية والتي تضم ما نسبته ١.٦٪ من إجمالي عدد الأحياء، فقد ساهمت بخفض معدل الجريمة على مستوى المدينة بنسبة ٧.١٪. أما الفئة المنخفضة فقد ضمت ١٦.٤٪ من الأحياء وساهمت في خفض معدل الجريمة بنسبة ٤.٢٪. أما الفئة المتدنية فقد ضمت ٢٥.٣٪ من الأحياء وساهمت بخفض معدل الجريمة بما يقارب ٥٠٪ من معدل انخفاض الجريمة. أما الفئة المتنوعة فقد ضمت ٥٦.٧٪ من الأحياء وساهمت في معدل الانخفاض بنسبة ٣٩٪. مما يعني أن الأحياء الواقعة في الفئة المتدنية كان لها المساهمة الأكبر في خفض نسبة الجريمة على مستوى المدينة.

بعد اكتشاف هذا التباين في معدل انخفاض الجريمة بين الأحياء ومدى مساهمة كل منها في خفض معدل الجريمة، يظهر تساؤلٌ هامٌ حول ماهية العوامل التي كان لها الأثر في هذا التباين. بشكل عام لطالما كانت دراسة العوامل المؤثرة على معدل الجريمة محل اهتمام الباحثين في علم الاجتماع وعلم الجريمة. ومع هذا التطور في وسائل جمع البيانات من قبل منظمات التعداد الوطني والانفتاح على مشاركتها، أتاحت فرصا ً للمهتمين بدراسة الجريمة للتعمق بدراسة مسبباتها والعوامل المؤثرة على اتجاهاتها.

في هذا البحث، تم اختيار مجموعة من المتغيرات بناءً على تأثيرها على مستوى الجريمة في الأبحاث السابقة وبناء ً على توفرها على مستوى الوحدة المكانية المراد دراستها (الوحدة المكانية في هذا البحث: الأحياء). تم الحصول على هذه البيانات عن طريق مركز التعداد الوطني لعامي 2001 و 2011، حيث يمثلان أقرب نقطتين لبداية ونهاية فترة الدراسة. المتغير الأول: الحرمان، ولقياس مستوى الحرمان تم استخدم عاملين حسب المؤشر الأسكتلندي لقياس مستوى الحرمان هما: متوسط دخل الأسرة، ونسبة السكان الذين لم تتوفر لهم فرصة عمل. العامل الثاني: الملكية، وتم حسابها من خلال نسبة السكان الذين يملكون مساكنهم، ونسبة المستأجرين من إجمالي عدد السكان. العامل الثالث، تركيبة الأسرة: وتم حسابها من خلال نسبة الأسر التي تتكون من شخص واحد، وكذلك الأسر من والد واحد وهي الأسر التي تتكون من أم أو أب مع وجود الأطفال. العامل الرابع: التركيبة العمرية: وتم حسابها من خلال نسبة الشباب في الحي (للأعمار ١٦-٢٤) ونسبة كبار السن (عمر ٥٥ وأعلى). أخيرا ً، لقياس تأثير عوامل جذب الجريمة، تم حساب نسبة عناوين المحلات التجارية من إجمالي العناوين في كل حي.

بعد تحليل خصائص الأحياء ومقارنتها بين الفئات المختلفة ظهرت عدة نتائج مثيرة للاهتمام. حيث أظهرت هذه النتائج أن الأحياء في الفئة المنخفضة – من حيث معدلات الجريمة –  سجلت أعلى نسبة من الملاك، وأعلى نسبة من الأسر التي لديهم أطفال وأقل نسبة من السكان الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين (١٦ و ٢٤) مقارنة بالفئات الأخرى. وعلى العكس، أظهرت النتائج أن الفئة العالية – من حيث معدلات الجريمة – يغلب عليها السكان من فئة الشباب ومن العاطلين عن العمل، كما  تضم أقل نسبة من السكان الملاّك، أو الأسر التي لديها أطفال)، بالإضافة إلى أعلى نسبة من المحلات التجارية. ولدراسة علاقة التغير النسبي بين خصائص الأحياء واتجاهات الجريمة فقد تم تحليل مدى التغير في هذه الخصائص بين السنة الأولى والسنة الأخيرة من فترة الدراسة ومدى علاقة ذلك بالتغير في معدل الجريمة. لقد أظهر هذا التحليل عدة نتائج مهمة قد تساعد في تفسير التغير في اتجاهات الجريمة في كل فئة. فعلى سبيل المثال، لقد شهدت جميع الفئات زيادة ً في مستوى السكان المستأجرين ولكن أقل زيادة كانت في الأحياء الواقعة ضمن الفئة المنخفضة و الفئة المتدنية. أيضا ً، سجلت جميع الفئات زيادة ً في متوسط دخل الأسرة ولكن الزيادة الأعلى كانت من نصيب الأحياء التي تقع في الفئة المنخفضة. بعد رصد هذه النتائج يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: كيف يمكن لهذه الدراسة أن تساهم في فهم التباين في انخفاض الجريمة بين الأحياء؟ وماهي التوصيات التي يمكن أن تساهم في دعم قرارات التدخل الأمني لتكون أكثر كفاءة وأكثر فعالية؟

أولا ً، تشكل الأحياء في الفئة العالية والفئة المتدنية ما نسبته ١٢.٤٪ من إجمالي الأحياء وساهمت في انخفاض معدل الجريمة بنسبة ٣٣.١٪ من إجمالي الانخفاض على مستوى المدينة. لذلك، فينبغي أن تولي الأجهزة الأمنية اهتماما ًبهذه الأحياء بسبب تأثيرها الأكبر على التحكم بمستوى الجريمة. كما تشكل هذه الأحياء أهمية كبرى لدى الجهات المسؤولة لبحث محركات اتجاهات الجريمة فيها. 

ثانيا ً، في الأبحاث التي تدرس تغيرات مستوى الجريمة غالبا ً ما يعزى هذا التغير إلى علاقته بالتغيرات الاقتصادية والديموغرافية والديناميكية الاجتماعية. وقد بنيت هذه التفسيرات في الأساس على نظريات الفوضى الاقتصادية والاجتماعية  لدراسة معدلات الجريمة ونمطها المكاني. ولكن، عندما تفسر  العلاقة بين مستوى الجريمة والتغير في خصائص الأحياء فينبغي أن تفسر هذه العلاقة بحذر لأن العوامل التي تم تحليلها في هذا البحث قد لا تشمل جميع العوامل التي لها تأثير مباشر أو غير مباشر على نمط التغير في مستوى الجريمة. 

تتسق خصائص الأحياء التي تقع في الفئة المنخفضة والفئة العالية مع التفسيرات النظرية للجريمة والتي ترتكز على نظرية الفرص (Opportunity theory) ونظرية الفوضى الاجتماعية (Social Disorganization Theory). فقد أظهرت النتائج أن أحياء الفئة العالية سجلت أعلى مستوى من عناصر جذب الجريمة مثل المباني التجارية، مما يزيد من فرص التقاء الضحايا والجناة وبالتالي زيادة فرص ارتكاب أنواع مختلفة من الجرائم. أيضا ً، تعتبر هذه الأحياء هي الأكثر حرمانًا من الناحية الاقتصادية  مما يعطي دافع أكبر لارتكاب الجريمة. بالإضافة إلى ذلك، سجلت هذه الأحياء أعلى مستوى من المساكن المستأجرة مما يضعف التماسك الاجتماعي بين السكان (Social Cohesion) والسكان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و 24 عامًا، حيث أن جميع هذه العوامل مرتبطة بزيادة الفوضى الاجتماعية. في المقابل، أظهرت الأحياء في الفئة المنخفضة خصائص  معاكسة للفئة العالية مما يدعم تفسير انخفاض الجريمة في هذه الأحياء.

أخيرا ً، أشار الباحثون إلى العديد من الأفكار للأبحاث المستقبلية. أولا ً، حينما تشهد الأحياء في الفئة العالية والفئة المتدنية خصائصا ً مختلفة ومستقرة خلال فترة الدراسة فهذا يزيد من أهمية دراسة العوامل التي تتحكم باتجاهات الجريمة في تلك الأحياء. ثانيا ً، لدعم الأبحاث التي تهتم بدراسة العوامل المؤثرة على اتجاهات الجريمة ينبغي جمع وتحليل المزيد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. ثالثا ً، إن النتائج التي توصل إليها الباحثين مستمدة من تحليل مستوى الجريمة بشكل عام بدون التركيز على نوع معين من الجرائم وبالتالي فإن حجم الجريمة واتجاهاتها والعوامل المؤثرة عليها قد يختلف اختلافًا جذريا ً بين أنواع الجرائم المختلفة. لذلك، فإن التركيز على نوع معين من الجرائم قد يكشف اختلافا ً سواء ً في أنماط تطور الجريمة أو العوامل المؤثرة عليها.

***

Paper Title:

Bannister, J., Bates, E., & Kearns, A. (2018). Local variance in the crime drop: A longitudinal study of neighbourhoods in greater Glasgow, Scotland. The British Journal of Criminology, 58(1), 177-199.‏